الحمد لله ذي الملكوت والقدرة، سبحانه عظيم، حليم، جواد، كريم، لا يقدر أحد قدره، خلق الإنسان وكتب له رزقه وأجله، وأحصى عمره، أحمده سبحانه، وأشكره على نعم لا تحصى عدًا ولا كثرة، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له هي العدة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، وكتب له تأييده ونصره، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والعترة، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان ومن سار على نهجه، وامتثل أمره.
أما بعد: فقد كتب الله سبحانه على الخلائق الفناء والزوال، فلكل نازل في هذه الدنيا رحيل وانتقال، ولكل حال من الأحوال إدبار وإقبال، والناس يشغلهم العاجل عن الآجل، وهم يشاهدون الراحل بعد الراحل، والتحاق الأواخر بالأوائل، وكل عامل سوف يلقى ربه بما هو عامل، أمل ابن آدم طويل، وعمره قصير، يبني ويهدم، وينقض ويبرم، وإذا جاء الأجل انقطع العمل، ولم تقبل المعاذير، ثم المصير إما إلى الجنة، وإما إلى عذاب السعير، فنسأل الله العفو والعافية والمغفرة من الزلل والتقصير.
الله أكبر إنه الموت يأخذ الأصاغر والأكابر، والمأمور والآمر، اللهم مُنَّ علينا بحسن الختام، وتوفنا على ملة الإسلام، وأقل العاثر.
وكفى بالموت واعظًا، هادم اللذات ومفرق الجماعات، هو الأقوى في تحريك المشاعر وإثارة النفوس، بل هو أصدق معبر عن مفقود لا يرجى إيابه.
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له
من الله في دار المقام نصيب
إن كلمات الرثاء ومقالاتها لها الصدارة في إثارة المشاعر لاتفاق الناس على تأثيرها في النفوس، فهي أصدق المقولات، تصدر من الأعماق، ومن عصارات المهج والقلوب، فتفوح بها كتابات الكاتبين، وشعر الشعراء المكلومين، ويفتقد الغالي من الآباء، والأمهات، ومن الأبناء والبنات، والإخوة والأخوات، ومن الأحبة والقرابات، ناهيكم بأهل العلم والفضل، والقيادة والريادة، ممن لهم عظيم الأثر، وجميل الذكر.
وإذا أتتك مصيبةٌ فاصبر لها
عظمت بليةُ مبتلىً لا يصبر
وما أعظم المصاب حين تفقد الأمة علماءها، وهم مصابيح الدجى، وحصون العقيدة، بهم يعرف الحلال والحرام، وبعلمهم -بإذن الله- تستضيء القلوب في ظلمات الفتن وموارد الشبهات.
العلماء هم السراج المنير، والقلعة التي تلجأ إليها الأمة في الشدائد، والمرشد الذي يقود الحيران.
في موت العلماء تتجلى مصيبة الأمة الأعظم، ويقبض نور المعرفة، وسراج الهداة، هم ورثة الأنبياء، يحملون أمانة العلم التي لا تنتزع من الصدور ولكن بقبض أرواحهم، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام : (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسألوهم فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
موت العالم ثلمة في الإسلام لا تسدها الأيام والليالي كما يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار)، ومثله قول الحسن البصري رحمه الله :(موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما طرد الليل والنهار).
وفي رثاء العلماء لا ترثي أجساد بالية بل أرواح عظيمة، أبت إلا أن تكون مشاعل وضاءة.
رثاء العلماء تذكير بالعبرة، وتسجيل للعطاء، وتخليد للذكرى، ودعوة للتأسي في العلم والأخلاق والسلوك.
فرحم الله أهل العلم جميعًا سلفًا وخلفًا، وجعل علمهم صدقة جارية، وأحسن إليهم، وتولى بمنه وكرمه جزاءهم، وألحقنا بهم في منازل النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة، وهم
بعد الممات جمال الكتب والسير
يقال ذلك كله وقد افتقدنا هذه الأيام علمًا من أعلام الأمة، وعالمًا من علمائها، وحبرًا من أحبارها.
فقد انتقل إلى رحمة الله تعالى سماحة المفتي العام للمملكة العربية السعودية، الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ في صبيحة يوم الثلاثاء غرة شهر ربيع الثاني من هذا العام 1447هـ، ذلك الجبل الراسخ في أرض التوحيد، والنجم الساطع في سماء الفتوى والإرشاد. كان رمزًا للعلم المؤصل، ومثالًا لوحدة العقيدة واللُحمة الصادقة، وجسرًا بين الماضي والحاضر المبني على الكتاب والسنة.
هو سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعًا.
ولد سماحته في مكة المكرمة في اليوم الثالث من شهر ذي الحجة من عام اثنين وستين وثلاثمائة وألف، وتوفي والده وهو صغير لم يتجاوز الثامنة من عمره في عام 1370هـ، وكانت له أم صالحة -رحمها الله- حرصت عليه في التربية والتنشئة، وهو بها بار في حياتها وبعد مماتها.
حفظ سماحته القرآن صغيرًا في عام 1373هـ وأتقنه على يد الشيخ محمد بن سنان -رحمه الله-، وقرأ على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية -رحمه الله- كتاب التوحيد، والأصول الثلاثة، والأربعين النووية وذلك من عام1374هـ حتى عام 1380 هـ، كما حضر مجالس سماحة الشيخ الوالد عبدالله بن محمد بن حميد -رحمه الله- وجملة من دروسه في المسجد الذي بجوار منزله في حي دخنه في الرياض، وقرأ على سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء -رحمه الله- الفرائض في عام 1377هـ وعام 1380هـ، وقرأ على الشيخ عبد العزيز بن صالح المرشد رحمه الله الفرائض، والنحو، والتوحيد، وذلك في عام 1379 هـ، وفي عام 1375هـ و1376هـ قرأ على الشيخ عبد العزيز الشثري -رحمه الله- عمدة الأحكام، وزاد المستقنع.
والتحق سماحته بمعهد إمام الدعوة العلمي بالرياض، ثم تخرج منه، والتحق بكلية الشريعة بالرياض عام 1380هـ، وحصل على شهادة الليسانس في العلوم الشرعية واللغة العربية منها، وذلك في العام الجامعي 1383/ 1384 هـ، ثم عين مدرسًا في معهد إمام الدعوة العلمي بالرياض من عام 1384هـ حتى عام 1392 هـ، وانتقل إلى كلية الشريعة بالرياض في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حيث عمل أستاذًا مساعدًا بكلية الشريعة في 7/5/1399 هـ. ثم أستاذًا مشاركًا في 13 - 11 - 1400هـ.
وبالإضافة إلى التدريس قام بالإشراف، والمناقشة لرسائل الماجستير والدكتوراه في كل من كلية الشريعة، وأصول الدين، والمعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وكلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، بالإضافة إلى التدريس بالمعهد العالي للقضاء بالرياض، والعضوية والمشاركة بالمجالس العلمية بالجامعة.
وفي شهر شوال عام 1407هـ عين سماحته عضوًا في هيئة كبار العلماء.
وقد تولى سماحته الإمامة والخطابة في جامع الشيخ محمد بن إبراهيم بدخنة بالرياض بعد وفاة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله وذلك في عام 1389ه، وفي عام 1402ه عين إمامًا وخطيبًا بمسجد نمرة بعرفة، وفي شهر رمضان عام 1412ه عين إمامًا وخطيبًا بجامع الإمام تركي بن عبدالله بالرياض.
وفي العام نفسه تعين عضوًا للإفتاء في رئاسة البحوث العلمية والإفتاء. ثم صدر الأمر الملكي ذو الرقم 838 وتاريخ 25 - 8 - 1416هـ بتعيينه نائبًا للمفتي العام، وبعد وفاة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، صدر الأمر الملكي ذو الرقم أ/ 20 وتاريخ 29 - 1 - 1420هـ بتعيينه مفتيًا عامًّا للمملكة العربية السعودية، ورئيسًا لهيئة كبار العلماء والبحوث العلمية والإفتاء بمرتبة «وزير».
وقد تميز سماحته بالصوت الندي في قراءة القرآن، وحفظه لكثير من السنة، وسرعة الاستحضار والاستشهاد، كما عرف بأسلوب مميز في خطابته مضمونًا وأسلوبًا، فهو خطيب مسقع، ملك ناصية القول بصوت جهوري يهز أرجاء المسجد في فصاحة، وبلاغة، وغيرة، ووعي، وسردية متميزة. عرفه العالم الإسلامي من خلال منبر مسجد نمرة بعرفة، وقد تولى فيه الإمام والخطابة أكثر من ثلاثين عامًا.
عرفات تذكر كيف كان خطيبها
كم هز من صدق الخطابة منبرا
ولسماحته حضور مميز في المحافل العلمية، إضافة إلى المشاركة في الندوات وإلقاء المحاضرات والدروس، وكذلك المشاركة في البرامج الدينية في الإذاعة والتلفاز.
وسماحة الشيخ عبدالعزيز من الشخصيات العلمية التي تدرجت في طلب العلم وبذلت في التحصيل وملازمة العلماء والأخذ عنهم.
ومن ذا الذي يؤتى فيسأل بعده
إذا لم يكن للناس في العلم مُقِنع
وقد امتاز -رحمه الله- بالتواضع، وحب الناس، وصدق الديانة، والنصح لولاة الأمر، وعامة المسلمين، والعكوف على العبادة -أحسبه كذلك والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدًا-، وكان له حضور في دروس الوالد وحضور مجالسه، وقد عرف -حفظه الله- بحسن صلته برحم النسب والعلم، فهو يصل رحمه من أقاربه من جهة أبيه وأمه -رحمهما الله- ويصل العلماء وطلاب العلم لما يراه من لزوم صلة رحم العلم، فالعلم رحم بين أهله.
تولى وأبقى بيننا طيب ذكره
كباقي ضياء الشمس حين تغيب
ومن عجيب ما نُقل عنه -رحمه الله- أنه حج عن الأئمة الأعلام الذين لم يحجوا، فحج عن ابن عبد البر المالكي، وابن حزم الظاهري، والمنذري، والنووي، وابن رجب الحنبلي وغيرهم -رحمهم الله-، وفاءً لهم وأداءً لحقهم، ولا يعرف عن أحد أنه قد سبقه إلى مثل هذا العمل الصالح.
ولسماحة الشيخ عدد من المؤلفات منها:
- كتاب الله عز وجل ومكانته العلمية.
- حقيقة شهادة أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
- من فتاوى العقيدة.
- من فتاوى الطهارة.
- من أحكام وفتاوى الزكاة.
- من فتاوى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ.
- من رسائل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ.
- فتاوى نور على الدرب -صدر منها أربعة أجزاء-.
- الدر المنير من خطب الجامع الكبير -صدر منها الجزء الأول-.
أفتى ووجه مخلصًا في دينه
متمسكًا نهجًا قويًا في العُرى
كان رحمه الله عابدًا، يختم القرآن كل ثلاثة أيام، وصاحب قيام ليل، وصيام نوافل، متواضعًا قريبًا من الناس، أبًا رحيما، مشجعًا لطلاب العلم، يعمر مجالسه بالعلم والدرس والمباحثات العلمية، والسؤال عن الجديد من البحوث والمؤلفات.
في حديثه ألفة، وفي ابتسامته مودةٌ، يلقى جليسه بالبشر والترحاب، في تواضع، وسماحة، وعطف، ولطف.
سليم الصدر، ملازم للذكر، لا يحب الخوض في حديث الدنيا، عليه سكينة ووقار، وفي كلامه ومهابة، وخشية، مع حلم وكرم، وعفة لسان، نقى السريرة، محمود السيرة، أحسبه كذلك ولا أزكيه على الله. متعلق بالمسجد، ناصح أمين.
خير بطانة لولاة الأمر معظم لهم يحفظ حقهم، ويصدق في نصحهم، يتميز بوسطية واعتدال مع الموافق والمخالف، حافظ لوقته، بقية السلف.
عبدالعزيز سماحة وتسامح
وفضيلة كبرى وذكر عُطِّرا
لقد خلا منه المجلس والمسجد والمحراب والمنبر، وحمل على أعواد، والآلة الحدباء بعد أن كانت تحمله أعواد المنابر.
خبت مصابيح كنا نستضيء بها
وطوحت للمغيب الأنجم الزهر
وكانت جنازته مشهودة، صلى عليه صاحب السمو الملكي الأمير/ محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، وأصحاب السمو الأمراء، وأصحاب الفضيلة العلماء، وأصحاب المعالي الوزراء، وحشود من الناس غفيرة، وأم المصلين ابنه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبدالله في جامع الإمام تركي بن عبدالله، ودفن في مقبرة العود، كما صلي عليه صلاة الغائب في الحرمين الشريفين، وفي جميع مساجد المملكة، رحمه الله، وأسكنه فسيح جنانه، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله.
ومما يحسن الختام به التنويه بوالدته العظيمة المرأة الصالحة سارة بنت إبراهيم الجهيمي، فقد كان لها الأثر العظيم والفضل الكبير على شخصية سماحة الشيخ رحمهم الله جميعًا، فقد شاء الله سبحانه بحكمته أن يتوفى والده رحمه الله وهو في الثامنة من عمره فقامت هذه الوالدة العظيمة بأعباء التربية والرعاية لأبنائها، ومما يذكره الدكتور هشام بن عبد الملك آل الشيخ في كتابه: (ملح العلماء) أن الشيخ حينما كان طفلًا صغيرًا كان يصعد درجات منبر الجامع الكبير ليلقي خطبة الأطفال فأخذه عمه مغضبًا إلى أمه يريدها أن تكفه عن هذا، فما كان من هذه الوالدة الصالحة الطموحة إلا أن قالت قولتها المشهورة في دعاء نحسب أنه كان خالصًا من قلبها: (أسال الله أن يحيك حتى تصلي خلفه في الجامع الكبير)، وقد تحققت دعوتها وفراستها، وأقر الله عينها بابنها عالمًا من كبار العلماء بل رئيس العلماء، وخطيب الخطباء فقد أمد الله في عمرها حتى رأت ذلك كله.
ومما يذكر في أسلوب تربيتها أنها كانت تأخذه إلى المسجد مسجد الأمير ناصر في الرياض لأداء صلاة الفجر وهو صغير، وتمكث تنتظره حتى يفرغ من الصلاة لتعود معه إلى البيت، وقد أخذ منها ذلك سنوات طويلة.
نعم لقد مد الله في عمرها حتى بلغت مائة عام فقد توفيت رحمها الله عام 1436هـ، معروفة بالعبادة، وكانت تعتكف طوال شهر رمضان في المسجد الحرام وتعود إلى الرياض بعد صلاة العيد.
فهي رحمها لله نموذج شاهد على عظيم دور الأم في صناعة الأجيال والرجال فهي بإذن الله من صناع الطموح، وباني القيم، وقناديل النور، رحمها الله، ورحم أمهاتنا ووالدينا، وأحسن في الدارين جزاءهم وأكرم مثواهم ومثوبتهم إنه سميع مجيب.
ولسماحة الشيخ أربعة أبناء هم: أ. د. الشيخ/ عبد الله الأستاذ في المعهد العالي للقضاء. وهو نائب سماحة المفتي بجامع الإمام تركي بن عبدالله بالرياض، ومحمد، وعمر، وعبدالرحمن. وله خمس من البنات. أصلحهم الله وبارك فيهم، وجعلهم عقبًا مباركًا .
بحر من العلم قد فاضت جداوله
وإنه سائغ في ذوق من طعما
فليت شعري من للمشكلات إذا
ما حل منها عويص يبهم الفهما
إن كان شخصك قد واراه ملحده
فإن علمك في الآفاق منتشر
وسماحة المفتي كان على صلة بسماحة الوالد الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد -رحمهما الله- حفيًا به، يحرص على تتبع ما صدر لسماحته وما صدر عنه من كتب ومقالات، وقد كلف جملة من الباحثين بتفريغ ما لدى سماحته عن سماحة الوالد عبد الله بن حميد، وقد بلغت ما يقارب مائتين وخمسين شريطًا ، وقد قُرأت عليه بعد التفريغ، ثم دفعها للعبد الفقير لمراجعتها وطباعتها، وقد تمت مراجعتها من قبل باحثين متمكنين حتى استوت على سوقها، وقد وجه سماحته رحمه الله بطباعتها، فتمت طباعتها، وقرت عينه برؤيتها والاطلاع عليها وتوزيعها ولله الحمد والمنة.
كما كان حفيًا بي جدًا يكرمني إذا زرته، ولقيته يسأل كثيرًا عن الأسرة، وعن الإخوة، وكان يشجعني كثيرًا وبخاصة فيما يطلع عليه أو يسمع عنه مما أكتبه أو أقوله، كما كان معجبًا جدًا بموسوعة نضرة النعيم، بل يكاد كلما زرته ولقيته يذكرها ويثني عليها ويبدي إعجابه بها، وإنني لآنس بالجلوس إليه والاستماع منه لما أشعر به من مودة وصدق وتشجيع، فرحمه الله وأحسن إليه.
وإن من المؤمل في ختام هذه الكلمة أن تتولى رئاسة البحوث والإفتاء جمع تراث سماحته وفاء بحقه وحق أهل العلم وطلبه، فنحسب أنه قد ترك من الأعمال العلمية مالا ينقطع ثوابه - بإذن الله الكريم المنان - من فتاوى، ودروس، وخطب ما يبقى ذكره ويعظم أجره.
وبعد فاحفظوا لأهل العلم مكانتهم، واعرفوا مقامهم، واعتنوا بهم، وتمسكوا بميراثهم؛ فإن الأمة التي تفقد علماءها تفقد أعمدة للحق متينة، وجذورًا للخير راسخة، وأنوارًا للهدية مضيئة، وحينئذ يصبح فضاؤها مظلمًا ، وقلوبها قاسيةً، وطرقها متعثرة.
تمسكوا بالعلماء قبل فوات الأوان، وانهلوا من علمهم قبل أن يرحلوا، واعتنوا بميراثهم حتى لا يطويه النسيان.
إن موت العلماء ليس موتًا لأجسادهم فحسب، بل هو انطفاء لأنوار، وتلاشي للحق، وفقد للمرشدين، فهم للأمة سعتها حين تضيق الدروب، ومرشدها في مسارب الحياة.
اللهم اغفر لسماحته وارحمه، وأسكنه في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء وللأمة.
يبقى رحيله ورحيل أمثاله من أهل العلم والفضل والصلاح درسًا: إن العلم لا يموت، وإن العالم يعيش في القلوب بنقل علمه والاقتداء به، والدعاء له بالمغفرة والرحمة.
المصدر : صحيفة الجزيرة
https://www.al-jazirah.com/2025/20251003/wa1.htm